الاقتصاد السوري في مرحلة انتقالية: دروس مستفادة من التجربة السورية
- أنس الأسود (Anas Alaswad)
- 31 ديسمبر 2024
- 4 دقائق قراءة
تاريخ التحديث: 1 فبراير

الاقتصاد السوري اليوم يعكس نتائج عقود من السياسات الاقتصادية غير الفعّالة، التي أدت إلى أزمات هيكلية مزمنة. منذ مطلع الألفية، شهدت سوريا تحولًا اقتصاديًا من الاشتراكية المركزية، حيث تتحكم الدولة في معظم الأنشطة الاقتصادية، إلى “اقتصاد السوق الاجتماعي”. هذا النموذج الاقتصادي يهدف إلى الجمع بين تدخل الدولة في دعم الفئات الفقيرة وآليات السوق الحر لتعزيز التنافسية والابتكار. عبد الله الدردري، نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية بين عامي 2006 و2011، قاد هذا التحول برؤية واعدة. لكن التنفيذ العملي لهذه الرؤية أدى إلى نتائج كارثية بسبب الفساد، ضعف الحوكمة، وغياب التخطيط.
من الاشتراكية إلى السوق الاجتماعي
منذ أوائل الألفية، قررت سوريا الابتعاد عن الاقتصاد الاشتراكي المركزي، الذي تتحكم فيه الدولة بشكل كامل، نحو نموذج “اقتصاد السوق الاجتماعي” و هو نموذج اقتصادي يوازن بين تدخل الدولة في القطاعات الاجتماعية (مثل الصحة والتعليم) وبين دور السوق الحر الذي يسمح بالمنافسة بين القطاعين العام والخاص. الفكرة كانت تبدو واعدة: توازن بين تدخل الدولة ودور القطاع الخاص. لكن المشكلة كانت في التنفيذ. سوريا، التي كانت تعاني أصلًا من فساد مؤسسي ومحسوبية، لم تكن تمتلك البنية التحتية أو القدرات المؤسسية اللازمة لإدارة هذا التحول.
على الورق، كان الهدف تحسين التنمية الاقتصادية وتقليل الفقر، لكن الواقع كان مختلفًا. خلال هذه المرحلة، زادت معدلات البطالة وارتفع الفقر إلى مستويات غير مسبوقة. في عام 2010، وصلت نسبة الفقر إلى 33% حسب تقارير رسمية. هذا يعني أن ثلث السكان كانوا يعيشون تحت خط الفقر قبل حتى أن تدخل البلاد في دوامة الحرب.
انهيار الصناعة الوطنية: أثر غياب السياسات الحمائية
تشير السياسات الحمائية إلى الإجراءات التي تتخذها الحكومات لدعم الصناعات المحلية وحمايتها من المنافسة الأجنبية غير العادلة. تشمل هذه الإجراءات فرض ضرائب جمركية على الواردات، تقديم إعانات مالية للمصانع المحلية، أو فرض قيود على الواردات للحفاظ على الميزة التنافسية للمنتجات الوطنية. في سوريا، أدى غياب هذه السياسات إلى كارثة اقتصادية ضربت الصناعات المحلية في الصميم. مثال واضح على ذلك هو المنتجات التركية المدعومة حكوميًا، التي اجتاحت الأسواق السورية بأسعار منخفضة يصعب منافستها. الصناعات السورية، التي كانت تعتمد على جودة منتجاتها مثل الملابس والأحذية، وجدت نفسها غير قادرة على الصمود أمام هذا الغزو الاقتصادي.
ما زاد الطين بلة هو انتشار عمليات التهريب عبر الحدود بشكل غير مسبوق، مما فتح السوق السورية أمام منتجات أجنبية بأسعار تقل عن تكاليف الإنتاج المحلية. النتيجة كانت كارثية: إغلاق آلاف المصانع الصغيرة والمتوسطة، التي كانت تشكل العمود الفقري للاقتصاد الوطني، وتسريح عشرات الآلاف من العمال. هذا التدهور لم يقتصر على إضعاف الصناعة الوطنية، بل خلق حلقة مفرغة من البطالة المتزايدة وضعف الإنتاج المحلي، مما ساهم بشكل كبير في تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
رؤية الدردري: بين النظرية والتطبيق
رؤية الدردري لتحويل الاقتصاد السوري إلى نموذج يعتمد على “اقتصاد السوق الاجتماعي” بدت نظرية واعدة. إلا أن التنفيذ كان غير مدروس. تقليص دور الدولة في القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم دون توفير بدائل ملائمة أدى إلى معاناة الطبقات الفقيرة. غياب اللوائح التي تحمي الصناعات المحلية من المنافسة الأجنبية والاحتكار أدى إلى تفاقم التفاوت الاقتصادي. في غياب التخطيط المناسب، أصبحت السوق بيئة خصبة للفساد والمحسوبية، ما زاد من تركيز الثروة في أيدي نخبة صغيرة.
الدعوة إلى اقتصاد السوق الحر المطلق: مفهومه واين تكمن مشكلته؟
اقتصاد السوق الحر هو نموذج اقتصادي تُترك فيه الأسعار والتجارة لتتحدد بناءً على العرض والطلب، مع تدخل حكومي محدود. الدردري يدعو اليوم إلى تبني هذا النموذج بشكل كامل، مؤكدًا على أهمية جذب الاستثمارات الأجنبية. لكن هذا التوجه يحمل مخاطر كبيرة. تحرير السوق بدون ضوابط قد يؤدي إلى تعميق الفجوة بين الفقراء والأغنياء، حيث تتركز الثروة بيد قلة. كما أن دخول الشركات متعددة الجنسيات إلى قطاعات حيوية مثل الزراعة والطاقة يمكن أن يقوّض السيادة الاقتصادية، وهو ما يعني فقدان الدولة لسيطرتها على مواردها الطبيعية وخدماتها الأساسية.
تجربة الأرجنتين تُعتبر مثالًا واضحًا على مخاطر تحرير السوق بدون قيود. عندما تبنت الأرجنتين سياسات السوق الحر دون حماية كافية، واجهت أزمات تضخم خانقة، وزيادة كبيرة في الفجوة بين الأغنياء والفقراء. في سوريا، تحرير السوق دون تنظيم يمكن أن يؤدي إلى تهميش الفئات الضعيفة، ويجعل الاقتصاد أكثر عرضة لتقلبات السوق العالمية، حيث تؤثر الأزمات الخارجية مباشرة على الاستقرار الاقتصادي الداخلي.
فخ الديون الدولية: هل القروض هي الحل؟
في الوقت الذي تحتاج فيه سوريا إلى سنوات من العمل المكثف لاستعادة عافيتها الاقتصادية، يجب أن تتحلى الحكومة الانتقالية بالحذر من إغراءات الاقتراض الدولي. المؤسسات العالمية مثل البنك الدولي، رغم وعودها بتسريع عجلة النمو، غالبًا ما تضع البلدان النامية في دوامة من الديون التي يصعب سدادها إلا بمزيد من الاقتراض. تاريخيًا، أظهرت تجارب دول عديدة أن هذه الديون تؤدي إلى فقدان السيادة الاقتصادية، حيث تُفرض شروط مجحفة تستغل موارد البلاد وتضعها في تبعية دائمة لدول وشركات رأسمالية كبرى.
بدلاً من ذلك، يجب أن تركز الحكومة السورية على تعبئة الموارد المحلية، وتعزيز الشراكات الإقليمية، وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر ضمن إطار قانوني يحمي السيادة الاقتصادية. الابتعاد عن الحلول السهلة مثل القروض الدولية يضمن وضع أسس اقتصادية متينة ومستدامة.
طريق التعافي: نحو اقتصاد السوق الحر الموجه
لإعادة بناء الاقتصاد السوري، يتطلب الأمر تبني نموذج “اقتصاد السوق الحر الموجه”، الذي يوازن بين ديناميكية السوق الحرة ودور الدولة في توجيه الاقتصاد نحو أهداف استراتيجية واضحة. هذا النموذج يسمح للسوق بتحديد الأسعار والتوجهات الاقتصادية بناءً على العرض والطلب، لكنه يُبقي للدولة دورًا فعالًا في حماية القطاعات الحيوية، مثل الزراعة والصناعة.
إعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطنين يجب أن تكون محور هذا النموذج. الإصلاحات الشاملة والشفافة ستعزز مناخ الأعمال وتكافح الفساد، مما يشجع الاستثمار المحلي والدولي. الصناعات المحلية تحتاج إلى حماية مؤقتة من خلال سياسات حمائية مدروسة، مثل فرض رسوم جمركية على الواردات أو تقديم حوافز مالية للمصانع الوطنية، لتعزيز تنافسيتها الدولية على المدى الطويل.
في الوقت نفسه، يجب أن تركز سوريا على تعبئة مواردها المحلية وتجنب الإفراط في الاقتراض الدولي، الذي قد يُفقدها استقلالها الاقتصادي. تعزيز الشراكات الإقليمية واستقطاب استثمارات أجنبية مباشرة ضمن إطار يحمي السيادة الوطنية ويضمن عدالة توزيع الثروة هو السبيل لبناء اقتصاد قوي ومستدام.
المراجع
1. Central Bureau of Statistics. Syria Statistical Yearbook 2010. Damascus: CBS Press. CBS SYRACUSE
2. Gerber, James. International Economics. 7th ed., Pearson, 2021, pp. 212-215.
3. De Schutter, Olivier, et al. Foreign Direct Investment and Human Development. Routledge, 2012, pp. 78-82.
4. Mody, Ashoka. Foreign Direct Investment and the World Economy. Routledge, 2006, pp. 120-125.
5. World Bank. China Economic Update – December 2020. Washington DC: World Bank, 2020.
6. Food and Agriculture Organization (FAO). Syria Agricultural Livelihoods Assessment. Rome: FAO, 2017.
7. World Trade Organization (WTO). Dispute Settlement Reports 2020. Cambridge: Cambridge University Press, 2021.
8. Stiglitz, Joseph E.. Globalization and Its Discontents. W.W. Norton & Company, 2002.
9. Organisation for Economic Co-operation and Development (OECD). Southeast Asian Economic Outlook 2018. Paris: OECD Publishing, 2018.
10. Perkins, Dwight H., et al. Economics of Development. 7th ed., W.W. Norton & Company, 2013, pp. 345-350.
Commentaires