الليرة السورية واستراتيجيات كسب الوقت: لماذا لا يعكس ارتفاعها تحسنًا اقتصاديًا؟
- أنس الأسود (Anas Alaswad)
- 10 فبراير
- 5 دقائق قراءة

الارتفاع المفاجئ للعملة لا يعني استقرارًا حقيقيًا
في الأشهر الأخيرة، شهدت الليرة السورية ارتفاعًا غير متوقع أمام الدولار الأمريكي، رغم أن جميع المؤشرات الاقتصادية الحقيقية تشير إلى العكس. ففي ظل اقتصاد يعاني من نقص الإنتاج، وعجز مزمن في الميزان التجاري، وتضخم متسارع، وعقوبات مازالت ترفع تدريجياً او قيد الدراسة، رغم ذلك نرى قيمة للعملة المحلية ترتفع أمام الدولار. هذه المفارقة أثارت العديد من التساؤلات بين المحللين الاقتصاديين والمراقبين، إذ لا يبدو أن هناك أي تحسن جوهري في هيكل الاقتصاد السوري يبرر هذا الارتفاع. بل على العكس، فإن جميع العوامل التي أدت إلى انهيار الليرة لا تزال قائمة، بل وربما تفاقمت.
في هذا المقال سنناقش أولاً ما يقوم به المركزي من إجراءات تهدف إلى تقليل العرض النقدي، ثانياً سنشرح تأثير المضاربة في الأسواق وتأثير تغيرات سعر الصرف على القيمة الشرائية للمواطن. بعدها سنقوم بطرح السيناريوهات المستقبلية المتوقعة والتحدث عن بعض المقترحات للخروج من الحلقة المفرغة من تقلب سعر الليرة السورية.
المركزي يفرض قيودًا نقدية صارمة لكنه لا يحل المشكلة الأساسية
المركزي السوري لم يعلن رسميًا عن خطة واضحة للسيطرة على سعر الصرف، لكنه اتبع نهجًا قائمًا على فرض قيود صارمة على السيولة، ما أدى إلى خفض كمية الليرة المتاحة في السوق، وبالتالي إجبار التجار والمضاربين وحتى المواطنين العاديين على بيع الدولار مقابل الليرة لتلبية احتياجاتهم المالية. هذه الاستراتيجية ارتكزت بشكل أساسي على منع ضخ كميات كبيرة من الليرة إلى السوق عبر وضع سقوف منخفضة جدًا على عمليات السحب النقدي، وهو ما جعل السيولة النقدية المتاحة بالليرة شحيحة إلى حد كبير.
بالإضافة إلى ذلك، فرض المركزي قيودًا صارمة على التحويلات المالية، مما جعل من الصعب على التجار والأفراد تحويل الأموال بحرية، سواء داخل سوريا أو إلى الخارج. هذا الإجراء كان له تأثير مباشر على حجم التداول اليومي لليرة، حيث أصبح من الصعب الحصول على السيولة اللازمة لشراء الدولار، مما أدى إلى ارتفاع قيمة الليرة في السوق المحلية بشكل مؤقت. هذه السياسة النقدية الانكماشية كانت كفيلة بإبطاء عملية انخفاض الليرة لفترة وجيزة، لكنها لم تكن قائمة على أي أسس اقتصادية سليمة يمكن أن تضمن استمرار هذا الاستقرار لفترة طويلة.
إحدى الأدوات الأخرى التي استخدمها المركزي للسيطرة على سعر الصرف كانت إدارة أسعار الصرف الرسمية بطريقة غير واقعية. فقد حدد سعر الدولار رسميًا عند 13,000 ليرة، لكنه في الوقت نفسه لم يقم بشراء الدولار من المواطنين بهذا السعر، ما جعل السعر الرسمي عديم القيمة في السوق الفعلية. في الوقت ذاته، تُركت السوق السوداء لتتحرك بحرية، حيث تراوح سعر الدولار بين 7,500 و 9,500 ليرة، مما خلق فجوة بين السعر الرسمي والسعر الموازي، وهو ما أدى إلى انتشار المضاربات والاحتكار من قبل بعض اللاعبين الكبار في السوق المالية السورية.
المضاربة تتحكم بالسوق بينما تظل السياسات النقدية عاجزة عن ضبطها
من أبرز العوامل التي ساهمت في ارتفاع قيمة الليرة خلال الفترة الماضية كانت المضاربة النشطة في سوق العملات. ففي ظل شح السيولة، وجد المضاربون فرصة لاستغلال الوضع عبر شراء الدولار بأسعار منخفضة ومن ثم رفع السعر بشكل مفاجئ لبيعه مجددًا بسعر أعلى. هذه اللعبة لم تكن جديدة على السوق السورية، لكنها أصبحت أكثر وضوحًا خلال الأشهر الأخيرة، حيث أدت التحركات غير الطبيعية في سعر الصرف إلى زعزعة ثقة المواطنين في استقرار العملة المحلية.
ما يحدث في السوق السورية يشبه إلى حد كبير ما يعرف بلعبة "شد الحبل"، حيث يتم التلاعب بأسعار الدولار عبر خفضها لجذب المواطنين والتجار لبيع ما لديهم من عملات أجنبية، ثم رفع السعر مجددًا لإحباطهم وإجبارهم على شراء الدولار بأسعار أعلى. هذه اللعبة تُدار من قبل جهات تمتلك قدرة على التحكم بكميات كبيرة من النقد الأجنبي، وتستفيد من الفوضى المالية لتحقيق أرباح ضخمة.
في ظل غياب تدخل حقيقي من البنك المركزي لضبط هذه المضاربة، أصبح سعر الصرف متذبذبًا وغير مستقر، حيث لا تعكس قيمته أي تطور حقيقي في الاقتصاد السوري. فالطلب على الدولار لا يزال مرتفعًا، لكن الإجراءات التقييدية المفروضة على السيولة هي التي تسببت في خفضه بشكل مصطنع. ومع بقاء النشاط الاقتصادي ضعيفًا والاعتماد الكبير على الواردات، فإن أي رفع للقيود الحالية سيؤدي إلى عودة الدولار للارتفاع مجددًا، وربما بوتيرة أسرع من ذي قبل.
ارتفاع الليرة لم يعزز القوة الشرائية للمواطن بل زاد من الضغوط المعيشية
قد يبدو ارتفاع الليرة خبرًا سارًا بالنسبة لبعض الفئات، لكنه في الواقع لم ينعكس إيجابيًا على حياة المواطنين بالشكل الذي قد يتوقعه البعض. صحيح أن بعض أسعار السلع التي تعتمد على الدولار قد انخفضت جزئيًا، لكن هذا الانخفاض لم يكن كافيًا لتعويض الخسائر التي تكبدها المواطن خلال الفترة الماضية. فالتضخم لا يزال مرتفعًا، والقوة الشرائية لليرة لم تتحسن بشكل جوهري، لأن المشكلة الأساسية في الاقتصاد السوري لا تتعلق بسعر الصرف فقط، بل بعدم وجود إنتاج حقيقي يعزز استقرار الاقتصاد.
النتيجة المباشرة لهذه السياسة النقدية كانت تفاقم معاناة المواطنين العاديين، خصوصًا أولئك الذين يعتمدون على رواتبهم الشهرية، حيث أدى تأخير صرف الرواتب الحكومية إلى خلق ضغوط مالية إضافية عليهم. إضافة إلى ذلك، فإن من يملك مدخرات بالدولار أصبح يعاني من عدم استقرار السعر، حيث يتم التلاعب به بشكل مستمر لجذب الأفراد لبيع مدخراتهم بسعر منخفض قبل أن يعاود الارتفاع مجددًا.
التوجه المستقبلي لسعر الصرف: لماذا يبقى الانخفاض هو السيناريو الأكثر ترجيحًا؟
التحليل النقدي والسوقي يشير إلى أن المسار المستقبلي لليرة مرهون بثلاثة سيناريوهات محتملة:
1.السيناريو المرجح: ارتفاع مؤقت يعقبه انهيار تدريجي
من المرجح أن يستمر الارتفاع الحالي لليرة لفترة قصيرة، لكنه لن يكون مستدامًا على المدى المتوسط والطويل. السبب الأساسي هو أن العوامل التي أدت إلى ارتفاع العملة لا تستند إلى زيادة في الإنتاج المحلي أو تحسن في الميزان التجاري، بل إلى إجراءات مؤقتة لا يمكن أن تدوم طويلًا. بمجرد أن يبدأ المركزي بتخفيف القيود على السيولة النقدية والسحب المصرفي، سيزداد الطلب على الدولار بشكل سريع، مما سيؤدي إلى تراجع الليرة إلى مستويات 12,000 - 15,000 للدولار.
تزامنًا مع ذلك، فإن أي تخفيف للقيود على الاستيراد سيخلق طلبًا إضافيًا على الدولار، خاصة في ظل العجز الكبير في تلبية الطلب المحلي من خلال الإنتاج الوطني. هذه العوامل مجتمعة تجعل هذا السيناريو هو الأكثر احتمالًا، حيث ستبدأ الليرة بالانخفاض التدريجي حتى تعود إلى مسارها الهبوطي مع الوقت.
2. السيناريو الأقل ترجيحًا: استقرار نسبي بفعل تدخلات خارجية
في حال حصول سوريا على دعم مالي خارجي، سواء عبر مساعدات مالية مباشرة أو استثمارات أجنبية، قد يتمكن البنك المركزي من تعزيز احتياطياته من النقد الأجنبي، مما قد يساعد في الحفاظ على استقرار الليرة عند مستويات أقل تقلبًا. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا السيناريو يعتمد على عوامل سياسية واقتصادية غير مؤكدة، مثل تحسن العلاقات التجارية مع الدول الإقليمية أو تخفيف العقوبات الاقتصادية، وهي عوامل لا يبدو أنها مرجحة في المستقبل القريب.
3.السيناريو الكارثي: انهيار شامل للعملة
إذا استمرت القيود النقدية لفترة طويلة دون حلول اقتصادية جذرية، فإن أي حدث اقتصادي سلبي مثل تصعيد سياسي أو فرض عقوبات إضافية قد يدفع الاقتصاد إلى أزمة أعمق، مما يؤدي إلى انهيار حاد في قيمة الليرة إلى مستويات قد تتجاوز 20,000 - 25,000 للدولار باقل التقديرات. هذا السيناريو سيؤدي إلى موجة تضخم مفرطة (Hyperinflation)، حيث ستفقد العملة المحلية وظيفتها كوسيلة تبادل موثوقة، مما قد يدفع الاقتصاد السوري نحو مزيد من الدولرة (Dollarization).
مقترحات للخروج من الحلقة المفرغة للانهيار النقدي
لا يمكن تحقيق استقرار حقيقي للعملة السورية من خلال الإجراءات النقدية التقييدية وحدها، بل يتطلب الأمر إعادة هيكلة كاملة للاقتصاد. ينبغي أن يكون التركيز على تحفيز الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الواردات، وهو ما يتطلب تقديم حوافز للمزارعين والصناعيين وإزالة العقبات البيروقراطية التي تعيق الاستثمار. بدلاً من تقييد السيولة النقدية، يجب على الحكومة أن تعمل على ضبط الأسعار عبر مراقبة الأسواق ومنع الاحتكار، حيث إن السيطرة على الأسعار بطريقة مدروسة يمكن أن تحقق استقرارًا طويل الأمد دون الحاجة إلى خنق الاقتصاد عبر تقييد السيولة.
الرهان على الوقت ليس استراتيجية اقتصادية
ما يحدث اليوم في سوريا ليس تحسنًا اقتصاديًا حقيقيًا، بل مجرد تأجيل للأزمة عبر إجراءات مؤقتة ستؤدي في النهاية إلى تفاقم المشكلة. لعبة شد الحبل بين البنك المركزي والمضاربين لن تؤدي إلى استقرار مستدام، بل ستجعل الاقتصاد أكثر عرضة للانهيارات المتكررة. الحل الوحيد هو اعتماد سياسات مالية واضحة، تعتمد على الإنتاج الحقيقي، وليس على التلاعب بسعر الصرف لخداع المواطنين بمؤشرات اقتصادية زائفة.
Comentarios