top of page

من المؤتمر السوري العام 1919 إلى المؤتمر الوطني 2025: دروس الماضي ومخاطر الحاضر والمستقبل



تبدأ عادةً مراحل الانتقال السياسي بعد سقوط الأنظمة بإقرار دستور مؤقت يحدد صلاحيات السلطات التنفيذية والتشريعية، إلى جانب رسم خارطة طريق لإعداد الدستور الدائم وإجراء الانتخابات. في الحالة السورية، تبدو هذه العملية أكثر تعقيدًا بسبب الحاجة إلى تحقيق توازن دقيق بين عدة أطراف فاعلة، سواء داخل السلطة نفسها أو في المجتمع السوري بمكوناته المتعددة، فضلًا عن الضغوط الدولية ذات المصالح المتشابكة.


هناك تحديات بارزة تتمثل في طبيعة القوى المسيطرة التي تضم النواة الصلبة لهيئة التحرير ذات المشروع الديني، إضافة إلى محاور أخرى ذات توجهات متباينة انضوت في غرفة عمليات ردع العدوان. كما أن المجتمع السوري بتنوعه وتعقيداته يفرض تحديات إضافية، حيث تتقاطع المصالح بين فئات سياسية وإثنية ودينية واجتماعية مختلفة. هذا المشهد يزداد تعقيدًا مع التدخلات والضغوط الدولية التي تعكس مصالح قوى إقليمية وعالمية، ما يجعل أي اتفاق داخلي غير مستدام دون توافق خارجي.

هذا التوازن الحساس، حتى مع افتراض حسن النوايا، يؤدي إلى بطء العملية القانونية وتأجيل الإعلان عن دستور مؤقت، مما يخلق حالة من الغموض القانوني والسياسي. بالمحصلة، يجري الإعداد لمؤتمر وطني عام في ظل غياب إطار قانوني واضح يحدد آلية عمله أو معايير اختيار أعضائه وممثليه أو طريقة تنظيم مخرجاته، مما يضع العملية الانتقالية أمام العديد من التحديات.


لا يبدو هذا السيناريو غريبًا على سوريا، ففي عام 1919 تم تشكيل المؤتمر الوطني العام دون ضوابط أو معايير واضحة، حيث تم اختيار المشاركين وفقًا لتمثيل المدن، وهو ما يتكرر اليوم بعد أكثر من قرن. ورغم عدم تشابه السياقات السياسية والداخلية والدولية، وأبرزها تقلص الرقعة الجغرافية التي تشملها العملية السياسية اليوم إلى الربع مقارنة بالماضي، إلا أن هناك قواسم مشتركة بين الحالتين.

كلا المؤتمرين جاء في لحظة تحول سياسي كبرى، حيث كان الهدف تقرير مصير سوريا بعد انهيار قوى عالمية كبرى. في عام 1919، كان الحدث المركزي سقوط الدولة العثمانية، أما اليوم فتدور التحولات حول إعادة تشكيل النظام الإقليمي بعد سلسلة من الصراعات التي أثرت في الشرق الأوسط.


تطرح هذه التحولات تساؤلات حول إمكانية ضبط آلية وأداء عمل السلطة الجديدة لتجنب الصورية في مؤتمر الحوار الوطني بحيث لا يعاد إنتاج تجارب الماضي من تقسيم واحتلال أو اعادة تحالف مع النظام القديم.


الفراغ السياسي و خطر التحالف مع شبكات النظام المخلوع

الملاحَظ أن سقوط النظام كان مفاجئًا للقيادة الجديدة، وكان لذلك أثر على تبنّي رؤية سياسية واضحة للسلطة، سواء فيما يتعلق بالسياسة الداخلية أو الخارجية. ففي حين تأخرت السلطة في اعتماد خطاب سياسي وإعلامي موحّد موجّه للداخل، مكتفية بإدارة الأمور عبر قرارات شفهية يتم تكذيبها أو تأكيدها بناءً على ردّة فعل الشارع، فإنّ السياسة الخارجية أُديرت بطريقة ناجحة، إذ كانت واضحة ومطمئنة في التعامل مع الدول المتخوّفة والمترقّبة والداعمة.


ومع ذلك، نتيجة لغياب الخبرات وعدم القدرة على التمييز بين ما هو قانون وما هو سياسة في الملف الخارجي، حصل بعض الدوران في المكان وتأخر تحقيق التقدّم المطلوب. فعلى سبيل المثال، حاولت السلطة الجديدة التهرّب من الالتزامات المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن 2254 عبر التشديد أولًا على أن القرار يتعلق بالنظام، وأن النظام قد سقط، وبالتالي لا يمكن استدعاؤه من روسيا للتحاور معه. لاحقًا، سعت السلطة إلى الضغط لحلّ الأجسام التي كانت قائمة وقت الثورة، مثل الائتلاف المعارض وهيئة التفاوض، معتقدةً أن حلّهما سيجعل وجود غير بيدرسون والقرار 2254 غير مبرَّر. غير أن هذا المسار انتهى بالتوقيع على بيان باريس، الذي يُعَد امتدادًا لمؤتمر الرياض وقمة العقبة، والذي عُقد في إطار القرار 2254، ما يعني أن السلطة، بعد إضاعة شهرين، انتهت إلى الالتزام بالقرار الأممي. الأَوْلى أن تُزوّد السلطة الجديدة نفسها بمجالس من المختصين القانونيين والسياسيين لتسريع العمل وتحسين الأداء.


لم تكن السلطة تهدف من حل الأجسام التي كانت قائمة وقت الثورة إلى التخلص من التزاماتها وفق القرار 2254 فحسب، بل سعت أيضًا إلى إنهاء المحاصصة في السلطة. تبدو فكرة المحاصصة مرفوضة من جميع السوريين إذا كانت قائمة على أسس طائفية أو عرقية، إذ يرفضون إعادة إنتاج النموذجين اللبناني والعراقي. إلا ان تشكيل حكومة وحدة وطنية تُمثّل جميع مكوّنات الشعب، على أساس الكفاءات والاختصاص، يعدّ مطلبًا ثوريًا، بالإضافة إلى كونه التزامًا دوليًا وضرورة وطنية لتثبيت الدولة الجديدة ومنع انزلاقها إلى الفوضى. 


لم يؤدِّ حلّ الأجسام الثورية إلى النتيجة المرجوّة قانونيًا، ولن يحقق الهدف المطلوب سياسيًا. فرغم ما يُقال عن فساد هذه الأجسام وفشلها في إدارة وتمثيل الثورة على الساحة الدولية، أو في تحقيق أي مصلحة شعبية، فإنّها لا تزال تؤدي دورًا هامًا في تجميع التيارات والمحاور السياسية المختلفة، وتتحمّل عبء التنسيق بينها، مما يتيح لها استصدار مواقف مشتركة حول القضايا المطروحة.


بالتالي، فإنّ تفكيك هذه البنى لن يؤدي إلى اختفاء التيارات السياسية، بل على العكس، سيؤدي إلى ظهور قوى وتحالفات جديدة تحاول شغل الفراغ السياسي الناجم عن غياب هذه الأجسام. المشكلة تكمن في أن السلطة الجديدة ستجد صعوبة في قراءة خارطة هذه التحالفات المستحدثة، وفهم ديناميكياتها، وإدارتها بفعالية قبل أن تفعل ذلك الدول المؤثرة المتدخلة في سوريا، والتي تملك خبرات وقدرات أكبر في استشراف التحولات السياسية و توظيفها و الاستثمار فيها.


بعبارة أخرى، استبدال "اللاعب القديم"، الذي يمكن التنبؤ بتصرفاته إلى حدٍّ ما، بمجموعة من "اللاعبين الجدد" غير المعروفين، قد لا يكون في مصلحة السلطة الجديدة. الأسوأ من ذلك، قد تجد السلطة نفسها أمام "لعبة جديدة" لم تكن هي الطرف الوحيد في تحديد قواعدها، ما يخلق حالة من عدم الاستقرار السياسي قد تعيق قدرتها على الحكم واتخاذ قرارات استراتيجية فعالة.


لهذا، فإنّ الحلّ الأكثر حكمة ليس بالضرورة إلغاء هذه الأجسام بشكل كامل، بل إعادة هيكلتها، وإدخال إصلاحات حقيقية عليها، بما يسمح بتصحيح مسارها وتعزيز فعاليتها، بدلاً من المخاطرة بخلق مشهد سياسي أكثر تعقيدًا يصعب التحكم فيه.


ضبابية الرؤية وغياب البنى السياسية المنظمة، نتيجة عدم تواجد الأحزاب والتيارات الفكرية والسياسية، يفتح المجال أمام سيطرة نخب تقليدية على المشهد. التمثيل القائم على أسس مناطقية بدلًا من الأسس السياسية أو البرامجية قد يسفر عن اختيار شخصيات تقليدية كالوجهاء والمشايخ والتجار الذين كانت لهم ارتباطات بالنظام السابق، مما يعيد إنتاج منظومة الحكم بواجهة مختلفة. هذه الديناميكيات قد تفضي إلى منح شرعية لقوى قديمة بدلًا من تمكين قوى التغيير، وهو ما قد يدفع الحكومة المستقبلية إلى التحالف مع هذه القوى أو الرضوخ لمطالبها، مما يعرقل مسار الانتقال السياسي ويؤدي إلى استمرار العقوبات وتفاقم الأزمة الاقتصادية وتزايد الاضطرابات الأمنية.


ضبابية الرؤية و خطر الانزلاق

في ظل هذا الفراغ السياسي والقانوني، وغياب أي إطار ينظّم عمل اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار، ستجد اللجنة نفسها مضطرة إلى التحاور مع أفراد لا يمثلون أي فكر أو مشروع سياسي، بل يطرحون مطالب خدمية محلية بحتة. هذا الوضع سيؤدي إلى مزيد من إضاعة الوقت، والمزيد من الحركات غير المنتجة التي تدور في حلقة مفرغة، دون تحقيق أي اختراق حقيقي على مستوى بناء الدولة أو صياغة رؤية وطنية جامعة.


إن انعقاد هذا المؤتمر بهذا الشكل، وضمن هذه الظروف العشوائية، لن يكون سوى مؤتمر صوري يفتقر إلى الشرعية السياسية والتأثير الفعلي، ما سيؤدي إلى نتائج كارثية على سوريا قد لا تقل فداحة عن نتائج "المؤتمر السوري العام" لعام 1919، حين أُعلن استقلال سوريا تحت قيادة ملكية لم تصمد أمام الاحتلال الفرنسي، نتيجة غياب الخبرات العلمية وافتقار المشروع للاعتراف الدولي.


لكن خطورة المشهد اليوم تتجاوز الفشل السياسي، فغياب الإطار السياسي المنظم، وعدم وجود تمثيل واضح للتيارات والقوى السياسية الفاعلة، يفتح الباب أمام سيناريوهات أشد خطورة، أبرزها شبح التقسيم. إذ ستسعى كل قوة محلية، في ظل غياب رؤية وطنية موحّدة، إلى فرض أمر واقع في مناطق نفوذها، مستندة إلى دعم خارجي يعزز الانقسام بدلًا من الوحدة. ومع استمرار هذا الانحدار، قد تجد سوريا نفسها أمام خريطة سياسية مجزّأة، حيث تبرز كيانات إقليمية شبه مستقلة، مدفوعة بحسابات داخلية وخارجية لا تخدم المصلحة الوطنية.


فضلًا عن ذلك، فإنّ هذا الفراغ السياسي سيتيح للقوى الدولية والإقليمية تعزيز نفوذها على الأرض، ليس فقط عبر دعم أطراف محلية موالية لها، بل من خلال فرض أجنداتها الخاصة، التي قد تشمل ترتيبات أمنية وعسكرية طويلة الأمد، تجعل من سوريا ساحة مفتوحة للاحتلال المقنّع، سواء عبر القواعد العسكرية أو النفوذ الاقتصادي والسياسي غير المباشر.


لذلك، لا يكمن الخطر فقط في فشل المؤتمر كفعالية سياسية، بل في كونه نقطة تحوّل قد تفضي إلى تفكّك البلاد وتحوّلها إلى ساحة صراعات مفتوحة، بدلًا من أن يكون خطوة نحو إعادة بناء الدولة على أسس وطنية جامعة. الحلّ لا يكون في عقد مؤتمر صوري، بل في خلق بيئة سياسية منظمة تضمن مشاركة القوى السياسية الفاعلة، وتضع إطارًا واضحًا للحوار، بحيث يكون مؤتمر الحوار الوطني نقطة انطلاق حقيقية لإعادة بناء سوريا، لا محطة أخرى في مسار التفكّك والانهيار. 


الخاتمة

إن استمرار الفراغ السياسي والقانوني، وغياب الإطار المنظم للحوار الوطني، لا يهدد فقط بفشل المؤتمر، بل يفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر خطورة، من تفكك الدولة إلى تعميق النفوذ الخارجي وتقنين الاحتلال عبر ترتيبات سياسية وأمنية غير وطنية. ولتجنّب هذا المصير، لا بدّ من اتخاذ خطوات عاجلة تضمن الحدّ الأدنى من الاستقرار السياسي والإداري.


في هذا السياق، يُعدّ اعتماد إعلان دستوري مؤقت على وجه السرعة ضرورة ملحّة، ليكون بمثابة مرجعية قانونية تنظّم عمل السلطة الجديدة، وتوفّر الإطار اللازم للحوار الوطني، بما يضمن وضوح الرؤية وفاعلية القرارات. كما يجب وضع آليات واضحة للعمل السياسي، تشمل تحديد صلاحيات مؤسسات الحكم، وإعادة هيكلة الأجسام السياسية بدلًا من حلّها العشوائي، مع تعزيز التمثيل الحقيقي للقوى الفاعلة، لمنع تفكك المشهد السياسي ودخول البلاد في حالة فوضى يصعب احتواؤها.


إلى جانب ذلك، فإن نجاح أي مشروع وطني يستوجب طمأنة واحتواء جميع القوى الموجودة على الأرض، بما في ذلك قوى الأمر الواقع، سواء السياسية أو العسكرية، عبر فتح قنوات للحوار وإيجاد صيغ تضمن مشاركتها في إعادة بناء الدولة بدلًا من تكريس الانقسام أو خلق بيئات عدائية جديدة. إن تجاهل هذه القوى أو التعامل معها بسياسات إقصائية لن يؤدي إلا إلى تعزيز النزعات الانفصالية وفتح المجال أمام التدخلات الخارجية لاستغلال الخلافات الداخلية.


وعلاوة على ذلك، فإن استمرار السلطة الثورية ككيان إداري مؤقت دون إطار سياسي واضح سيؤدي إلى تآكل شرعيتها تدريجيًا. لذا، يجب أن تتحول السلطة الثورية إلى حزب سياسي منظم، يمتلك برنامجًا اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا واضحًا، بحيث يستطيع خوض المنافسة السياسية مستقبلاً، ويمثل مشروعًا حقيقيًا لبناء الدولة، بدلًا من أن يظل مجرد سلطة انتقالية عرضة للتفكك أو الاستهداف الداخلي والخارجي. إن هذا التحول سيمكنها من استقطاب الكفاءات الوطنية، وتأطير العمل السياسي ضمن مؤسسات مدنية قادرة على قيادة المرحلة القادمة بفعالية.


إن النجاح في هذه المرحلة لا يكمن فقط في إدارة الوضع الراهن، بل في التأسيس لمسار وطني واضح يضع سوريا على طريق الاستقرار والسيادة الفعلية، بعيدًا عن شبح التقسيم والوصاية الخارجية، عبر حلٍّ سياسي شامل لا يُقصي أحدًا ويحقق التوازن بين مختلف القوى الوطنية، مع بناء نموذج سياسي حديث يضمن استمرار المشروع الوطني في المستقبل.

 



 
 
 

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page