top of page

تقييم أداء أول حكومة سورية بعد إسقاط نظام الأسد



تقييم أداء أول حكومة سورية بعد إسقاط نظام الأسد

من المفترض، وفقًا للوعود والالتزامات المُعلنة، أن تنتهي مهام حكومة تصريف الأعمال ذات اللون الواحد مع بداية الشهر، وذلك تمهيدًا لتشكيل حكومة انتقالية تشاركية تتولى إدارة المرحلة المقبلة. وفي ظل هذه المتغيرات، يصبح من الضروري تقييم أداء أول حكومة بعد إسقاط النظام، بالنظر إلى أبرز الملفات التي تعاملت معها، ومدى نجاحها أو تعثرها في إدارتها.


1.     الملف الخارجي

يُعد هذا الملف من أكثر الجوانب التي حققت فيها الحكومة نجاحًا ملموسًا، حيث تمكنت من إدارة العلاقات الخارجية بكفاءة، وأثبتت قدرتها على تثبيت موقفها الدولي في مرحلة حساسة من عمر الدولة السورية الجديدة. لقد استطاعت الحكومة، من خلال دبلوماسية متوازنة، بناء شبكة من العلاقات التي ساعدتها على كسب مصداقية في الأوساط الإقليمية والدولية. إلا أن هناك تحديات لا تزال قائمة و تتعلق بقدرتها على استثمار هذا الرصيد الدبلوماسي في تحقيق مكاسب عملية، مثل تأمين دعم اقتصادي وتنموي، وتوفير اعتراف أوسع بشرعية مؤسساتها. يُضاف إلى ذلك الحاجة إلى توسيع نطاق التحالفات الدولية، لضمان وجود دعم مستدام يساعد البلاد على تجاوز التحديات الراهنة.


2.     الملف الأمني

نجحت الحكومة في منع وقوع اقتتال مجتمعي واسع، وهو إنجاز أساسي يحسب لها، خاصة في ظل التوترات العميقة التي خلّفها الصراع السابق. فقد تمكنت من احتواء العديد من بؤر التوتر، وحالت دون تفاقمها إلى مستويات خطيرة كان من شأنها أن تعيد البلاد إلى دوامة العنف والفوضى.

لكن رغم هذا النجاح، لا يزال النهج الأمني المتبع يعاني من بعض القصور، حيث يعتمد بشكل أساسي على "رد الفعل" بدلًا من "الإجراءات الوقائية". ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى غياب جهاز شرطي محترف، مما يجعل التدخلات الأمنية مكلفة من الناحية المادية والبشرية. كما أن ضعف القدرة على ضبط الأمن ينعكس سلبًا على بيئة الاستثمار، حيث يزيد من مخاوف المستثمرين ويؤدي إلى هروب رأس المال، وهو ما يُفاقم الأزمة الاقتصادية.


علاوة على ذلك، يُسجَّل على الحكومة عدم قدرتها على فرض انضباط كامل على العناصر الأمنية التابعة لها، مما أدى إلى تزايد الحوادث الفردية والممارسات غير المنضبطة، وهو أمر يستدعي إعادة النظر في آليات ضبط الأمن وتدريب الكوادر الأمنية بشكل أكثر مهنية.


كما يؤخذ عليها عدم تعاملها بحزم مع حملات التحريض والانتهاكات التي استهدفت مكونًا سوريًا بعينه، إذ كان ينبغي على الحكومة أن تتعامل مع هذه التجاوزات باعتبارها انتهاكًا صارخًا لأسس الدولة السورية الجديدة، واعتداءً على الحقوق الجامعة لكل السوريين. لذلك، فإن على الحكومة المقبلة مسؤولية التصدي الجاد لهذه الممارسات، من خلال تبني نهج قانوني صارم يرسخ سيادة القانون، ويفعّل آليات المحاسبة والمساءلة الشاملة. كما يجب العمل على تطبيق العدالة الانتقالية بحق مرتكبي الجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت خلال فترة النظام السابق، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من عملية إعادة بناء الدولة على أسس العدل والمساواة.


3.      الملف الاقتصادي

يُعد الملف الاقتصادي أحد أكثر التحديات تعقيدًا، نظرًا لارتباطه الوثيق بكل من الوضعين الأمني والخارجي. وقد أعلنت الحكومة تبنيها لنظام السوق المفتوح، لكنها لم تتمكن من تقديم رؤية اقتصادية متكاملة، وذلك بسبب افتقارها للخبرات اللازمة في هذا المجال، فضلًا عن صعوبة إعادة هيكلة الاقتصاد في ظل الظروف الراهنة.


ومن بين النقاط الإيجابية التي يمكن الإشارة إليها في هذا الملف، هو تراجع الحكومة عن نموذج "اقتصاد إدلب"، الذي كان يعاني من اختلالات حادة أثرت سلبًا على الأداء الاقتصادي العام في الشهر الأول. ومع ذلك، فإن غياب سياسات اقتصادية واضحة ومحددة يجعل من الصعب تحقيق تقدم ملموس في هذا المجال.


يواجه الاقتصاد السوري تحديات كبيرة، أبرزها نقص السيولة، وارتفاع نسب البطالة، وانهيار البنية التحتية، إلى جانب استمرار حالة عدم الاستقرار الأمني، مما يؤدي إلى عزوف المستثمرين عن ضخ أموالهم في السوق السورية. وبالتالي، فإن الحكومة المقبلة مطالبة بوضع سياسات اقتصادية أكثر وضوحًا، تتضمن إصلاحات جذرية تستهدف إعادة بناء المؤسسات المالية، وتشجيع الاستثمارات، وتعزيز الإنتاج المحلي للحد من الاعتماد على المساعدات الخارجية.


في الحقيقة، تُشكل السياسة والأمن والاقتصاد زوايا مثلث يرتكز في مركزه على القانون كمحور ناظم. فاستقرار الأمن يعتمد بشكل وثيق على نجاح الإصلاحات الاقتصادية، حيث إن تحسن الوضع المعيشي يساهم في تقليل التوترات الاجتماعية. في المقابل، لا يمكن للاقتصاد أن يتعافى دون وجود بيئة سياسية مستقرة، تتيح حرية الحركة والاستثمار، وتضمن حماية حقوق الأفراد والشركات.

هذه العلاقة التلازمية تعني أن أي اختلال في أحد هذه العناصر ينعكس سلبًا على العناصر الأخرى، مما يجعل عملية التعافي مشروطة بتقدم متزامن في مختلف المجالات. ولذلك، فإن نجاح الحكومة المقبلة مرهون بقدرتها على تحقيق توازن دقيق بين الأمن والاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي، ضمن إطار قانوني يحفظ حقوق الجميع، ويؤسس لنظام حكم مستدام وعادل.


4.     الملف القانوني

رغم الضغوط والمطالبات الشعبية والدولية بوضع إطار قانوني واضح للدولة، فإن التقدم في هذا الملف كان شبه معدوم، بل شهد تراجعًا خطيرًا في عدة جوانب. لا يزال غياب دستور و هيئة تشريعية مسؤولة عن سن القوانين يشكل فراغًا قانونيًا ينعكس سلبًا على مختلف المجالات، من الاقتصاد والأمن إلى الحقوق المدنية والتنظيم الإداري. ومع غياب المرجعية القانونية، نشأت حالة من الضبابية التي سمحت بظهور ممارسات تُكرس الفوضى بدلًا من تأسيس نظام حكم مستقر.

في ظل هذا الفراغ، برزت ظواهر غير مسبوقة تعكس اضطرابًا في هوية الدولة الناشئة. بعض الجماعات بدأت تروج لتمجيد النظام السابق، محاوِلةً إعادة صياغة سردية الأحداث بما يبرر انتهاكاته. في المقابل، سُجلت محاولات لطمس آثار الجرائم والانتهاكات، عبر طلاء السجون وإعادة توظيف الأماكن التي كانت شاهدة على ممارسات القمع، مما يعكس توجهًا خطيرًا نحو إخفاء الذاكرة الجماعية بدلاً من الاعتراف بالماضي والمضي نحو مصالحة قائمة على العدالة.

هذا الواقع لا يعني فقط غياب العدالة، بل يؤدي إلى فرض واقع سياسي واجتماعي غير متزن، حيث تحكم المصالح الآنية على حساب القانون. أي مشروع لإعادة بناء الدولة لا يمكن أن يُكتب له النجاح دون إطلاق عملية دستورية شفافة تضمن مشاركة جميع المكونات، ووضع منظومة قانونية تكرس مبدأ المحاسبة، وتحول دون إعادة إنتاج استبداد جديد تحت مسميات مختلفة.


5.     الجانب الإعلامي

من المعروف أن السيطرة على الإعلام تعني السيطرة على الرأي العام، وهو السبب الذي جعل الانقلابات والثورات تاريخيًا تبدأ بالاستيلاء على وسائل الإعلام التقليدية، مثل الإذاعة والتلفزيون.

كان الملف الإعلامي أحد أسوأ الملفات التي أُديرت خلال هذه المرحلة، إذ لم تتمكن الحكومة من بناء منظومة إعلامية متماسكة تعكس توجهاتها وتواكب التحولات الكبرى التي تمر بها البلاد. فقد اعتمدت بشكل أساسي على منصات التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك" و"تلغرام" كمصادر أساسية لنشر المعلومات، وهو ما أدى إلى انفلات إعلامي خطير جعل الدولة عاجزة عن التحكم في السردية العامة أو توجيه الرأي العام بطريقة مدروسة.


القرارات الحكومية كانت تُعلن بشكل عشوائي عبر منشورات غير رسمية، في غياب متحدث رسمي أو قناة إعلامية معتمدة يمكن الرجوع إليها. هذا النمط من الإدارة عزز الفوضى المعلوماتية، حيث لم يكن هناك أي مصدر موثوق يضبط تدفق الأخبار. غياب الإعلام الرسمي لم يكن مجرد خلل تنظيمي، بل تسبب في تعزيز الشائعات، وترسيخ ثقافة الثأر، وزيادة الاستقطاب داخل المجتمع، مما أدى إلى حالة من عدم الثقة والخوف مما هو قادم.


في ظل هذا المشهد، تحولت الساحة الإعلامية إلى ساحة فوضى، حيث وجدت الجهات المتطرفة والجهات المناوئة للحكومة الفرصة لملء الفراغ وتوجيه الخطاب العام. استمرار هذا النهج سيؤدي إلى تفاقم الانقسامات، مما يجعل إصلاح هذا الملف أولوية ملحة. الدولة تحتاج إلى وسائل إعلام مهنية تعزز التواصل الرسمي مع المواطنين، وتعمل على ضبط الخطاب العام، وتواجه التضليل الإعلامي الذي يهدد بتشويه الحقائق وزيادة التوترات المجتمعية.


6.     الملف الاجتماعي

لم يكن هذا الملف مجرد تحدٍّ عابر، بل مثّل أحد أكبر الصدمات التي واجهتها الحكومة، حيث بدا واضحًا أنها لم تُظهر أي فهم حقيقي لتعقيداته، وربما لم تدرك حتى الآن مدى أهميته في استقرار المجتمع. غياب الاستراتيجيات الاجتماعية الواضحة، إلى جانب ضعف الخبرات القانونية والإعلامية، أسهم في خلق حالة من الضبابية حول توجهات الحكومة، ما أدى إلى انتشار الخوف والريبة بين مختلف المكونات المجتمعية. ومع ذلك، يُحسب للحكومة أنها لم تستجب لصوت التحريض والغوغائية، وهو ما حال دون انفجار الأوضاع الداخلية بشكل أكبر.


في المرحلة الأولى، هيمن على المشهد خطاب المظلومية السنية، الذي استحوذ عليه تيار سلفي، الأمر الذي سرعان ما سيولّد مظلوميات متفرعة، حيث بدأنا نشهد تصاعد خطاب المظلومية بين مختلف التيارات السنية نفسها، من صوفية وإخوان مسلمين وسلفيين تقليديين، إلى جانب مظلوميات أخرى لمكونات درزية ومسيحية. هذه الديناميكيات تحمل في طياتها مخاطر تفتيت سوريا كوطن، في حال لم يتم التأسيس لدولة قانون وحريات تحمي الجميع، دون أن تُستخدم المظلومية كأداة سياسية تكرّس الإقصاء المتبادل.

المسار التاريخي يؤكد أن خطاب المظلومية عندما يُستخدم في السياق السياسي دون ضوابط قانونية عادلة، يؤدي إلى تداعيات كارثية. تجربة المؤتمر السوري العام عام 1919 خير دليل على ذلك، حيث ساد حينها خطاب المظلومية العربية، الأمر الذي ألغى تمامًا اللغة والثقافة والهوية التركية، وهو ما شكّل أحد الأسباب التي دفعت لاحقًا إلى فقدان لواء إسكندرون، حيث اختار سكانه الانضمام إلى تركيا. هذا الإقصاء استمر لاحقًا، فخلق مظلومية كردية لم تتضح نتائجها بعد، في حين أن التهميش والإفقار الذي تعرض له العلويون في ظل النظام الإقطاعي أسهم في توليد المظلومية العلوية، التي استغلها الأسد لاحقًا لبناء دولته الأمنية المتوحشة، موجهًا عنفها ضد الأغلبية السنية، ما أدى في النهاية إلى إسقاط نظامه.


اليوم، بعد سقوط النظام، يتكرر هذا المشهد مع تغير الأدوار، حيث تعود المظلومية السنية إلى الواجهة، لكن بانقسامات جديدة، مما يهدد بإعادة إنتاج دوائر جديدة من الإقصاء. إذا لم يتم تفكيك هذه المظلومية بشكل منهجي، عبر بناء دولة مواطنة متساوية، وإطلاق مشروع وطني شامل يضمن العدالة الاجتماعية، فإن البلاد ستظل أسيرة لهذه الدوامة التي أعاقت استقرارها لعقود، وأدت إلى إعادة إنتاج الأزمات بدلاً من حلّها.


7.     ملف الحوار الوطني

رغم التسمية، إلا أن ما حدث لم يكن حوارًا وطنيًا بالمعنى الحقيقي، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون. بدا واضحًا أن هذا الحوار لم يُصمَّم ليكون أداة حقيقية لحل النزاعات أو تحقيق توافق داخلي، بل جاء في إطار استجابة شكلية للضغوط الدولية، حيث صيغ بطريقة تخدم المصالح السياسية الخارجية أكثر من حاجات الداخل السوري.


المقاربة التي تم اتباعها لم تراعِ التباينات العميقة بين مكونات المجتمع السوري، ولم تضع أسسًا واضحة لآليات الحوار، بل بدت وكأنها محاولة لفرض هيمنة سياسية مُسبقة، مما أفقد العملية برمتها مصداقيتها. بدلًا من أن يكون الحوار فرصة لجمع الفرقاء على أرضية مشتركة، سيتحوّل إلى منصة لمزيد من الاصطفافات، حيث شعرت بعض المكونات بأنها غير ممثلة أو أن دورها كان هامشيًا، في حين استُخدمت لغة فضفاضة لم تقدم أي تفاصيل فعلية تجاه القضايا الجوهرية، مثل العدالة الانتقالية، الحقوق و الحريات، وإعادة هيكلة الدولة.


غياب الشفافية في إدارة الحوار، وعدم وجود آليات ملزمة لتنفيذ مخرجاته، جعله أقرب إلى استعراض سياسي منه إلى عملية حقيقية لبناء تفاهم وطني مستدام. من دون تغيير جوهري في أسلوب إدارة هذا الملف، بحيث يكون الحوار عملية شاملة تستند إلى أسس واضحة تُلزم جميع الأطراف و القوى السياسية بعيدا عن المحاصصة الطائفية، سيبقى مجرد إجراء شكلي لا يُفضي إلى نتائج ملموسة، مما يُبقي الانقسامات قائمة ويؤجل الحلول بدلًا من تحقيقها.


الخلاصة

أداء الحكومة تباين بين نجاحات محدودة وإخفاقات واضحة. الملف الخارجي كان من أبرز نقاط القوة، حيث عززت الحكومة علاقاتها الدولية وثبتت موقفها الدبلوماسي. أمنيًا، تمكنت من منع انفجار اقتتال داخلي واسع، لكنها افتقرت إلى نهج وقائي فعال، مما زاد من التكاليف الأمنية وأضعف بيئة الاستثمار.

اقتصاديًا، لم تنجح الحكومة في تقديم رؤية متماسكة، حيث ظل الأداء الاقتصادي هشًا ومتأثرًا بالتوترات الأمنية والسياسية. أما قانونيًا، فقد استمر الفراغ الدستوري والتشريعي، مما أدى إلى اضطراب تنظيمي وغياب سيادة القانون. في الملف الاجتماعي، تفاقم خطاب المظلومية بين مختلف المكونات، دون جهود حقيقية لمعالجته ضمن إطار وطني جامع. الإعلام كان الحلقة الأضعف، حيث افتقرت الحكومة إلى استراتيجية واضحة، مما أتاح انتشار الفوضى المعلوماتية والاستقطاب.

مع الانتقال إلى حكومة موسعة، يبقى التحدي الأكبر في تصحيح هذه الاختلالات، عبر تبني سياسات مؤسسية تضمن بناء دولة عادلة ومستقرة، يتم فيها تعزيز التواصل بين المركز والأطراف. وفي حال غياب إصلاحات حقيقية، لن يظل الانقسام محصورًا في الأطراف فحسب، بل سيمتد إلى قلب المركز والحاضنة الثورية نفسها.

 


 
 
 

Comentários

Avaliado com 0 de 5 estrelas.
Ainda sem avaliações

Adicione uma avaliação
bottom of page