top of page

خفض مخاطر البلد: الطريق الحتمي لجذب الاستثمار وإعادة إعمار سوريا

تاريخ التحديث: 1 فبراير




عالم المال لا يرحم. إن كنت تظن أن المستثمرين سيدخلون دولة مليئة بالفوضى وعدم الاستقرار بدافع الحماس أو الإنسانية فأنت تعيش في وهم. في عالمنا المعاصر، وزن الدولة وقيمتها الحقيقية يُقاس بقوتها الاقتصادية، لا بشعاراتها أو خطبها الرنانة. القوة الاقتصادية هي التي تضع الدول على خارطة النفوذ العالمي. ولكي تبني اقتصادًا قويًا، لا بد من الاستثمار. ولكن الاستثمار لا يأتي مجاناً. رأس المال جبان كما يقال، يبحث عن الأمان والمردود المضمون. سوريا اليوم بحاجة ماسة ليس فقط لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر (Foreign direct investment)، بل أيضاً لتحفيز رأس المال الوطني والمغتربين السوريين على العودة إلى وطنهم واستثمار مدخراتهم فيه. ما ينطبق على الاستثمار الأجنبي ينطبق تماماً على الوطني؛ فالمال واحد، يخاف من الفوضى ويهرب من المخاطر.


ماذا تعني مخاطر البلد؟

 

مخاطر البلد هي العقبة الأساسية التي تجعل الأموال تهرب بدلاً من أن تتدفق. إنها الحائط الخفي الذي يفصل بين حلم التنمية الاقتصادية والواقع المُحبط. فكر للحظة: هل تجرؤ شركة عالمية، أو حتى مستثمر وطني عادي، على وضع أمواله في بيئة تغرق في الانهيارات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية؟ بالطبع لا. رأس المال، سواء أجنبي أو وطني، لن يتحرك إلا إذا ضمنت له الاستقرار. المستثمرون السوريون في المهجر، والذين يشكلون شريحة ضخمة من رأس المال السوري، هم والشركات الاجنبية يراقبون عن بُعد وينتظرون اللحظة التي يشعرون فيها بأن أموالهم ستكون آمنة إذا استثمرت في سوريا.

 

 

1.     المخاطر السياسية: أساس الاستقرار

 

المخاطر السياسية تأتي في المقام الأول. السياسة ليست مجرد عنصر من عناصر مخاطر البلد؛ إنها حجر الأساس لأي بيئة استثمارية. عندما تكون البيئة السياسية مضطربة، يصبح الاستثمار شبه مستحيل. المخاطر السياسية تشمل عدم الاستقرار السياسي الناتج عن الصراعات، الانقلابات، أو الاحتجاجات الواسعة التي تهدد الأنظمة الحاكمة. إنها أيضًا ترتبط بالمخاطر السيادية، مثل مصادرة أصول الشركات الأجنبية أو تأميمها دون تعويض عادل. في سوريا، خلال سنوات الحرب، كانت القوانين تُعدل بشكل عشوائي ودون شفافية، مما جعل المستثمرين في حالة من القلق المستمر. القرارات كانت تُتخذ لخدمة مصالح نخبة صغيرة، على حساب الاقتصاد الوطني والمستثمرين الأجانب. الأسوأ من ذلك، كانت حكومة النظام تفرض الابتزازات والإتاوات على أصحاب رؤوس الأموال والتجار، مما أدى إلى هروب رأس المال وعزوف المستثمرين عن العمل في البلاد.

 

لكن المشكلة لا تقتصر على القوانين غير المستقرة. الأمان السياسي يرتبط أيضًا بالجيش والشرطة. سوريا بحاجة إلى إعادة تشكيل الجيش الوطني كركيزة للاستقرار السياسي والاجتماعي. الجيش ليس مجرد أداة عسكرية؛ إنه رمز للوحدة الوطنية. لا يمكن أن يبقى الجيش السوري تجمعًا لفصائل متنازعة تخدم مصالحها الخاصة أو تابعة لأجندات خارجية. يجب أن يتحول إلى قوة وطنية موحدة تعمل لصالح سوريا وشعبها. إلى جانب الجيش، المؤسسات الأمنية والإدارية تحتاج إلى إصلاح شامل. الشرطة والأمن الداخلي يجب أن يُعاد ضبطهما ليكونا أدوات لحفظ الأمن وخدمة المواطنين، لا أدوات قمع أو فساد. المؤسسات الإدارية يجب أن تعمل بكفاءة وشفافية، بحيث تعيد بناء الثقة بين الدولة والمستثمرين المحليين والدوليين.

 

المخاطر السياسية ليست فقط تهديدًا اقتصاديًا، بل هي تهديد للثقة. المستثمرون يبحثون عن بيئة سياسية مستقرة وقوانين واضحة تضمن لهم الحماية. إذا لم يتم معالجة هذه المخاطر السياسية بشكل جذري، فإن أي محاولة لجذب الاستثمارات الأجنبية أو إعادة الإعمار ستظل محض خيال.


 

2.     المخاطر الاقتصادية: العملة والاستقرار المالي

 

بعد السياسة، يأتي الاقتصاد. المستثمرون يبحثون عن استقرار العملة، معدلات تضخم منخفضة، وسياسات مالية واضحة. إذا كانت العملة المحلية تنهار، فإن أموال المستثمرين تتبخر. سوريا خلال الأزمة شهدت انهيارًا كبيرًا في قيمة الليرة السورية، مما جعل أي استثمار مغامرة خاسرة. التضخم المرتفع، الديون الهائلة، والضرائب غير المتوقعة كلها مؤشرات تدفع المستثمرين للابتعاد.


 

3.     المخاطر الاجتماعية: العدو الخفي

 

ثم تأتي المخاطر الاجتماعية، وهي العدو الخفي. الاحتجاجات، النزوح الداخلي، والإضرابات العمالية كلها تجعل بيئة الاستثمار غير مستقرة. المستثمرون لا يريدون سماع قصص عن نزاعات داخلية تعيق الإنتاج. سوريا شهدت موجات نزوح هائلة وارتفاعاً غير مسبوق في البطالة، مما زاد من حدة التوترات الاجتماعية.

 

4.     البنية التحتية: الأساس الذي يُعيد تشغيل عجلة الاستثمار

 

البنية التحتية هي العمود الفقري لأي اقتصاد. الطرق، الموانئ، شبكات الكهرباء، والاتصالات، كلها دُمرت خلال الحرب. المستثمرون، سواء الوطنيون أو الأجانب، لن يأتوا لبناء مشاريعهم إذا لم تكن هناك بنية تحتية موثوقة. إعادة بناء هذه البنية يجب أن تكون أولوية وطنية، ليس فقط لجذب الاستثمارات الأجنبية، ولكن أيضاً لتحفيز المستثمرين السوريين في الداخل والخارج على الإسهام في إعادة إعمار بلادهم.

 

أيضا أحد أهم الدروس المستخلصة من التجارب العالمية هو أهمية الإصلاحات القانونية والبيئية لجذب الاستثمار. تحتاج سوريا إلى بناء بيئة استثمارية شفافة، حيث تُزال البيروقراطية ويتم تسهيل العمليات التجارية للمستثمرين المحليين والدوليين. إضافة إلى ذلك، يجب أن تكون القوانين مرنة ومستقرة لضمان حماية حقوق المستثمرين على المدى الطويل. لن يجازف المستثمرون في بيئة تُصادر فيها الأصول أو تتغير فيها القوانين بشكل مفاجئ.

 

لكن ما هو الاستثمار الأجنبي المباشر لماذا هو مهم؟


الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) هو عملية تقوم فيها الشركات أو الأفراد من خارج البلاد باستثمار رأس المال بشكل مباشر في مشاريع داخل الدولة المستقبِلة، مثل بناء مصانع، تأسيس شركات، أو تطوير مشروعات بنى تحتية. يتميز الاستثمار الأجنبي المباشر عن الاستثمارات الأخرى بكونه يشمل السيطرة الإدارية على العمليات، ما يعني أن المستثمرين الأجانب يشاركون بشكل مباشر في تطوير الاقتصاد المحلي، ويجلبون معهم ليس فقط رأس المال، بل أيضًا التكنولوجيا الحديثة، والخبرات الإدارية، والعلاقات التجارية الدولية.

 

بالنسبة لسوريا، الاستثمار الأجنبي المباشر ليس مجرد أداة اقتصادية، بل هو شريان حياة لاقتصاد مدمر يعاني من ندرة في الموارد ورأس المال. بعد رحيل نظام الأسد والتحرر من حكم دام أكثر من ستين عامًا، ارتبط خلاله اسم سوريا بالفساد، الاحتكار، وسوء الإدارة، تأتي الحاجة الملحة لإعادة بناء الثقة الدولية. تاريخيًا، كانت “الحركة التصحيحية” التي أطلقها النظام في السبعينيات بداية لتدهور المؤسسات الاقتصادية وتحويلها إلى أدوات لخدمة النخبة الحاكمة، مما أدى إلى تآكل الثقة في مناخ الأعمال السوري. ثم جاءت الحرب التي استمرت 14 عامًا لتدمر البنية التحتية بشكل كامل، بما في ذلك الطرق، الموانئ، شبكات الكهرباء، والمياه، مما جعل إعادة الإعمار تحديًا هائلًا.

 

الاستثمار الأجنبي المباشر يمكن أن يكون الحل الأمثل لإعادة بناء سوريا على أسس حديثة. إنه ليس فقط وسيلة لسد فجوة التمويل، ولكنه فرصة لإدخال تكنولوجيا متقدمة ونماذج إدارية جديدة من شأنها أن تضع سوريا على مسار التنمية المستدامة.


لماذا يهتم المستثمرون بمخاطر البلد؟

 

لأن المال ذكي. المستثمرون لا يهدرون أموالهم على أحلام غير محسوبة. إنهم يبحثون عن الأمان والاستقرار. رأس المال لا يحب المغامرة، إنه يبحث عن الأرباح. عندما يرون مخاطر مرتفعة، فإنهم يغلقون دفاترهم وينظرون إلى مكان آخر.

 

لكن الأمر أكبر من ذلك. الشركات لا تنظر فقط إلى العائدات على المدى القصير، بل تخطط لعقود قادمة. إذا كانت البيئة غير مستقرة، فلا فائدة من بناء مصنع أو استثمار طويل الأمد. المستثمرون يريدون قواعد واضحة، قوانين شفافة، واستقرار طويل الأمد. بدون هذه الأمور، فإنهم يختارون الانسحاب.


كيف يمكن تحقيق خفض المخاطر؟

 

نظريًا، يبدو الأمر واضحًا، لكن تنفيذه معقّد للغاية. الاستقرار السياسي يجب أن يكون الأولوية الأولى. الحكومة بحاجة إلى تعزيز سيادة القانون ومنع التغيرات العشوائية في السياسات. البنية التحتية القانونية تحتاج إلى تحسين شامل، بما في ذلك إنشاء مركز وطني للتحكيم الاقتصادي والتجاري، يكون متخصصًا في تسوية النزاعات بسرعة وفعالية وتقليص الاعتماد على القضاء.

 

على الجانب الاقتصادي، يجب السيطرة على التضخم، تخفيف عبء الديون، وتقديم حوافز ضريبية تجعل سوريا مكاناً جذاباً للاستثمار. البنية التحتية بحاجة إلى إعادة بناء شاملة، من الطرق إلى شبكات الكهرباء والاتصالات. العلاقات الدولية يجب أن تعزز الثقة من خلال معاهدات استثمارية ثنائية واتفاقيات تجارية.

 

الرسالة الأخيرة


رأس المال يبحث عن الأمان، وسوريا يجب أن تقدم هذا الأمان. لذلك فان اهم خطر تواجهه البلاد هو المخاطر السياسية لذلك نحن بحاجة إلى جيش يحمل راية الوطن وليس رايات متفرقة، جيش يوحّد ولا يفرّق، جيش يعمل ليكون حاميًا للاستقرار ورمزًا للسيادة. بجانب الجيش، يجب أن تُعاد هيكلة مؤسسات الأمن الداخلي لتصبح أدوات لخدمة المواطن، لا أدوات قمع تُعمّق الانقسام. هذا هو الأساس الذي سيعيد بناء الثقة بين الشعب والدولة ، ويُظهر للعالم أن سوريا تعود أقوى وأكثر توحدًا ويتيح لخفض مؤشر مخاطر البلد لجذب الاستثمارات الأجنبية.

 
 
 

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page